أخر الاخبار

الخميس، 10 أكتوبر 2013

فارس الأحصنة المتوحشة (نصوص من حكمة الشرق)

فارس الأحصنة المتوحشة (نصوص من حكمة الشرق)
(2)
العروبة نت/ أحمد صالح غالب الفقيه

صنعاء في شتاء 2002
الهندوسية:
 الفيدا كلمة سنسكريتية تعني المعرفة. وهي تطلق على أكثر النصوص قداسة وقدماً في الهندوسية وترجع نصوصها الأولى إلى الآريين الغزاة الذين احتلوا الهند قادمين من الشمال منذ حوالي عام ألف وخمسمائة قبل الميلاد. وقد تراكمت نصوص ضمت إلى الفيدا الأصلية عبر الزمن. وتحتوي النصوص الفيدية على أربع مجموعات من الأناشيد وأقسام شعرية وتعاليم تخص الطقوس والاحتفالات. وهذه المجموعات الأربع تدعى الريج فيدا، والساما فيدا، والياجور فيدا، ثم الأثارفا فيدا، وتعرف كل منها أيضا بلفظة (ساماهيتا) التي تعني المجموعة.

الأصول الأولى للفيدا:
كانت الأصول الأولى للفيدا مؤلفة بالفيدية وهي شكل من أشكال اللغة السنسكريتية، ورغم الأصل القديم لنواة الفيدا التي جاءت مع الغزاة الآريين فإنه من المعتقد أن كتب الفيدا لم تأخذ شكلها الحالي إلا في فترة تقارب القرن الثالث قبل الميلاد. وقد كانت الفيدا أدباً شفوياً، يحفظه عن ظهر قلب كهنة يسمى الواحد منهم (ريشي)، وينقلون ما حفظوه من جيل إلى جيل. وهي عملية يعترف علماء الهندوسية بأنها كانت تؤدي إلى إضافات وتغييرات في الأصل الآري. ومن المعترف به الآن لدى دارسي الهندوسية، أن كتلة كبيرة من نصوص الفيدا مأخوذة من الثقافة الدرافيدية الهندية السابقة على الغزو الآري، وهي أجزاء يمكن للدارسين تمييزها.

المحتويات والاستعمالات:
الساماهيتا الثلاثة الأول هي عبارة عن كتب للطقوس التي يتم إجراؤها من قبل ثلاث طبقات من الكهنة الذين يشرفون على الاحتفالات الطقوسية الخاصة بتقديم القرابين إلى الآلهة.

وتحتوي الريج فيدا على حوالي ثلاثة آلاف أنشودة، فكلمة ريج تعني بالسنسكريتية الأنشودة. وهذه الأناشيد مكتوبة في أشكال شعرية متنوعة ومرتبة في عشرة كتب، يستعملها كهنة الهوتري أو القراء الذين - كما يعتقد - يستثيرون القوى الإلهية عن طريق الترتيل الجهري للأناشيد. أما الساما فيدا المحتوية على مقاطع (جمل) مأخوذة من الريج فيدا، فيستخدمها كهنة الـ(أود جاتري) أي المنشدون الذين يقومون بغناء تلك الأناشيد، وكلمة ساما السنسكريتية تعني الألحان. أما فيما يتعلق بالياجور فيدا فإنها تتكون الآن من قسمين منقحين يحتويان على نفس المواد تقريباً، ولا يختلفان إلا في الترتيب ويخص الكتاب التعاليم الطقوسية الخاصة بالقرابين، ويستعملها الكهنة الـ(أدفاريو) الذين يقرأون مقاطع مناسبة من الياجور فيدا أثناء قيامهم بأداء الطقوس. وكلمة ياجا السنسكريتية التي اشتقت منها كلمة ياجور تعني القرابين.

الجزء الرابع من الفيدا، وهو الـ(أثارفا فيدا)، ويعزى إلى كاهن - ريشي- اسمه آثرافان، ويحتوي على مجموعة واسعة من الأناشيد المتنوعة، والنصوص والتعاويذ السحرية المخصصة للاستعمال الشخصي والمحلي. ولم يكن هذا الجزء معترفاً به كجزء من الفيدا بسبب الطبيعة الانحرافية لمحتوياته عن النصوص الفيدية الأخرى الأقدم عهدا. ولكنه أصبح الآن مقبولاً كجزء من الفيدا، وهو يُستعمل كدليل طقوسي من قبل الكهنة البرهميين، وهم الطبقة الرابعة الأعلى التي تشرف على طقوس القرابين. ويعتقد الدارسون أن هذا النص يرجع في معظمه إلى الثقافة ما قبل الآرية.

مكونات نصوص الفيدا:

تتكون كتب الفيدا من حيث طبيعتها من نوعين من النصوص هما الـ(براهمانا) والـ(مانترا). والنوع الأول عبارة عن تعليقات وهوامش على كتب الفيدا الأصلية وهي تتناول التفاصيل والتفسير للنصوص الأصلية. أما النوع الثاني وهو المانترا فهو عبارة عن نصوص الفيدا الأصلية أو المتون.

وهناك كتابات مضافة ألحقت بالبراهمانا أي بالتعليقات والشروح وتسمى (أرانياكا) أو نصوص الغابات، واسمها مشتق من الكلمة السنسكريتية أرانيا ومعناها غابة. وهذه الكتابات الصوفية الطابع والغنية والغامضة في محتواها، كتبها الحكماء الزهاد من براهمة الغابات. ويعتقد الهندوس بقدسية كل الشروحات في البراهمانا على اعتبار أن مصدرها وحي إلهي يتلقاه واضعوها من الكهنة والحكماء الزهاد وهم في حالات الاتصال الروحي (سامدهي). كما يعتقدون أن فهم هذه النصوص فهما صحيحا لا يتيسر إلا للزاهدين المنقطعين للتأمل والعبادة.

ويشكل مجموع نصوص الأرانياكا - في شكلها النهائي - ما يعرف بال(أوبانيشاد) وهي ترجع إلى مابين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد. وتعتبر الأوبانيشاد والكتابات الفلسفية والحكمية التجديدية، التي نشأت على أساسها، فكرا بل وديانة توحيدية ذات شقين ، الأولى حلولية تقول بأن الأشياء المتعددة ليست إلا قناعا وخيالا ووهما لا حقيقة له يخفي وراءه حقيقة الإله الواحد الخالق، وتسمى النصوص التي تحمل هذا الفكر الحلولي بالـ (أدفايتا فيدانتا). والثانية توحيدية تقول : أن هناك إلها واحدا خالقا يتحكم في الكون، وأنه والكون كيانان منفصلان. وعقيدة الـ(فيدانتا) بشقيها تخالف العقيدة الأصلية للفيدا الشائعة في الهند، التي تقول بتعدد الآلهة ومع ذلك فنصوصها جزء من المجموعة الرباعية المقدسة للفيدا.
وعلى العكس من كتب الفيدا التي لا يجوز مناقشة محتوياتها أو معارضتها توجد الملاحم الشعرية غير المقدسة وهي قابلة للتحوير والتعديل والمناقشة وتسمى هذه النصوص غير المقدسة باسم (سمريتي) أو ما يتم تذكره.
وتتكون السمريتي من ملحمتي الرامايانا والمهاباهاراتا إضافة إلى ثمانية عشرة من (البورانا) الكبرى وهي نصوص سنسكريتية، إضافة إلى عديد من البورانا الثانوية.
وإلى جانب الملاحم هناك نصوص الدارماشاترا والدارماسوترا، التي ينتمي إليها النص المنسوب إلى الحكيم مانو الذي يردده الناس كثيراً.
والرامايانا والمهاباهاراتا ملاحم قصصية شعرية، تحكي مغامرات وبطولات تجسيد الإله فيشنو؛ (كريشنا وراما). وتتطرقان من خلال القصص إلى طائفة واسعة من الموضوعات الفلسفية والطبية والسياسية والفلكية. ويرجع تاريخها إلى مابين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي.
أما البورانا فتأتي بعد الملاحم في ترتيبها الزمني ، أي إلى ما بعد 400 بعد الميلاد بكثير. وهي نصوص قصصية أيضاً مكملة للملحمتين الكبريين. فالبهاجافاتا بورانا على سبيل المثال؛ تتناول طفولة كريشنا التي لم ترد في الملحمة الأصلية. وتحتوي البورانا أيضاً على أساطير ثانوية وأناشيد تمجيدية وفلسفات وصوراً وطقوساً.
ومعظم كتب اليورانا ذات طبيعة طائفية. فالبورانات الكبرى، وبعض الصغرى مكرسة لعبادة الإلهين شيفا وفيشنو والآلهات المرتبطة بهما. وإضافة إلى ذلك، تحتوي البورانا على موضوعات عامة غير طائفية؛ مثل خلق الكون، والتدمير وإعادة الخلق، وأصول الآلهة والحكماء المقدسين، والحكماء الآباء للجنس البشري (المانوات) جمع مانو.

الفـيـدانـتـا:
تمثل نصوص الفيدانتا الجانب الروحي المشرق في الهندوسية مقابل الروح الظلامية الكهنوتية للفيدا الأصلية التي يبرز بوضوح فيها أنها وضعت لتدعيم سلطة الكهنوت البرهمي الهندي لطبقة البرهميين الآريين المستغلة التي وفدت على الهند من الشمال واستعمرتها واستغلت أهلها وأوجدت لها خطاباً دينيا كهنوتياً عبوديا لا مثيل لعنصريته في التاريخ الإنساني لتدثره بدثار من التدين والطقوس التي قيدت مئات الملايين من الهنود في ربقتها ولا يزالون يعانون منها إلى اليوم.
أما الفيدانتا فهي نصوص تعبر عن حركات تجديدية تبدو كما لو كانت استجابة للتحدي البوذي الأكثر إنسانية، والذي استقطب كثيراً من سكان الهند.
وتتكون عبارة الفيدانتا من كلمتين سنسكريتيتين، هما: (فيدا)، وتعني المعرفة، و(آنتا)، وتعني النهاية، أي أن معنى الفيدانتا هو نهاية المعرفة.
والفيدانتا هي إحدى الفلسفات الهندوسية التقليدية الست، وهي تعنى بمعرفة البراهمان الكائن الكوني الأعلى النقي. وترتكز الفيدانتا على القسم المتأخر من الكتابات الفيدية نسبة إلى الفيدا، وبخاصة على الكتابات الغنية في نصوص الآراناياكا أوالأوبانيشادا.
وخلافاً للنصوص الفيدية التقليدية الأصلية فإن مختصرات الفيدانتا (فيدانتا سوترا)، وتدعى أيضاً براهما سوترا، تعزى إلى شخصيتين شبه اسطوريتين هما الفيلسوف بادارايانا من القرن الرابع قبل الميلاد، والحكيم فياسا. وتنسب إلى الحكيم فياسا أيضاً أجزاء متأخرة زمنياً عن سابقاتها من ملحمة المهاباهاراتا.
وأياً تكن شخصية واضع الفيدانتا الأول فإن من الجلي أن نصوصها كانت مكتوبة بأسلوب غامض، غير مؤيد بشروح توضح النص الأصلي. ولذلك فقد ظهرت لها لاحقاً، تفسيرات عديدة نشأت على أساسها مدارس فلسفية هندوسية متعددة. ولكن أشهر مدارس التفاسير وأكثرها أهمية هي (الأدفايتا) أو اللاثنائية التي أسسها الفيلسوف واللاهوتي الهندي شانكارا.

شانكارا:
القضية المركزية في فكر شانكارا هي العلاقة بين (براهمان) الإله و(آتمان) النفس أو الروح البشرية. وطبقاً لشاناكارا فإن الإثنين ليسا إلا الشيء ذاته، ولا يمنع الإنسان من إدراك الطبيعة اللاثنائية للكائن النقي الأعلى براهمان إلا (الأفيديا) أي الجهل. الذي يجعلها لا ترى ولاتدرك إلا الذوات المنفصلة والمتعددة والأشياء التي هي مجموع العالم المادي ذي الوجود المؤقت. وهي لا تدرك أن هذه الكيانات الوجودية المتعددة المنفصلة غير حقيقية في أساسها، وأنها ظواهر تنتجها (المايا) أي قوة الخيال الموروثة بصورة غامضة، والمنعكسة من (براهمان) الإله.
وما دامت الذات الفردية مفتقرة إلى المعرفة الحقيقية، فإنها ستظل تبحث عن ذاتها الحقيقية في عالم الظواهر. وستبقى واقعة في مصيدته باستمرار من خلال (سامسارا) أي سلسلة الوجود المتكرر المتضمن للموت وإعادة الولادة من جديد، والذي تعانيه كل نفس غير متنورة كنتيجة للـ(الكارما) أي أفعالها الشريرة والخيرة خلال وجودها السابق الذي يحدد شكل وجودها اللاحق. ولكن ومن خلال المعرفة الحقة بالفيدانتا تتمكن روح الإنسان، طبقاً لشانكارا، من إدراك الحقيقة اللانهائية للوجود الأزلي الكامن خلف القناع الكوني للمايا. وعندئذٍ تدرك روح الإنسان أن طبيعتها الحقيقة تنطبق على حقيقة البراهمان. وبهذه المعرفة الحقيقية للذات تصل الروح إلى (الموكشا) وهو الخلاص من السامسارا والكارما وبالتالي تحقق الوصول إلى (النيرفانا) أي الوعي الفائق والتنور التام. ومن الواضح من هذا الشرح لفكر شانكارا مدى صلته بالأفكار الواردة في نص الأوبانيشاد الذي نعرض ترجمة له في هذه المقالة.

الأوبانيشاد:
الأوبانيشاد، نصوص هندوسية مقدسة لدى الهندوس، وسرية بمعنى أنها كانت نصوصاً مضنوناً بها على غير الخاصة من رجال الدين الهندوس شأنها شأن كتب الفيدا الأربعة. وقد جمعت نصوص الأوبانيشاد في فصول من كتاب الفيدا الهندوسي الديني سميت «آرانياكا». والمقولات الفلسفية التي تحتويها الأوبانيشاد كانت أساساً لأحد الأنظمة الأهم للفلسفة أو الديانة الهندوسية وهي المسماة بـ«الفيدانتا». وهناك حوالي مائة وخمسون نصاً من نصوص الأوبانيشاد ولكن مائة وثمانية منها هي المعترف بها تقليدياً. معظم الأوبانيشاد نصوص نثرية يتخللها الشعر ولكن بعضها عبارة عن نصوص شعرية بالكامل. وأقصر نصوص الأوبانيشاد لا تزيد عن محتوى صفحة مطبوعة بينما أطولها يتكون من خمسين صفحة. ومن المعتقد أن نصوص الأوبانيشاد تم تأليفها بين القرنين الخامس والثامن قبل الميلاد.
الموضوع الرئيس للأوبانيشاد هو طبيعة «البراهمان» أو الروح الكوني؛ وهي تقدم شروحاً لطبيعة «الأتمان» أو النفس الداخلية الخفية لكل كائن، وعلاقتها بالبراهمان. وقد تمت كتابة شروح واسعة للصيغ المذهبية التي احتوتها الأوبانيشاد في كتابات منفصلة سميت بالكتابات الأوبانيشادية. أما الموضوعات الأخرى التي تحتويها فتضم طبيعة وهدف الوجود، والطرق المختلفة للتأمل والعبادة، وموضوعات تخص الموت وما بعد الموت، وأخيراً نظرية التناسخ.

نص من الأوبانيشاد:
«هناك طريقان، طريق الغبطة وطريق الشهوة وكلاهما يستهويان الروح. العاقل يسير في درب الغبطة بينما يختار الأحمق درب الشهوة».

الجزء الأول:
قام العجوز فاجاسرافاسا بتقديم كل ما أحضره للتضحية ولكن تقدمته لم تكن عن رغبة حقيقية في نيل ثواب السماء.
وكان للعجوز ولدٌ يدعى نيشيكيتس والذي على الرغم من أنه كان لا يزال غلاماً فقد كانت له رؤى إيمانية عبرت عن نفسها يوم تم تقديم الأضاحي وظهرت في أفكار دارت في نفسه:
فكر نيشيكيتس «هذه التقدمة الوضيعة المكونة من أبقار لا تنتج اللبن لكبر سنها ولا تأكل العشب لضعفها ولا تشرب الماء، لابد أنها لا تقود مقدمها إلا إلى عالم الندم».
ولذلك فقد قررتقديم نفسه ذاتها كأضحية، وسأل أباه قائلاً: «يا أبت إلى من ستهبني؟» سأل السؤال مرة، ومرتين، وثلاثاً؛ وفي المرة الثالثة فقط أجابه أبوه بغضب: «سأهبك إلى الموت».
قال نيشيكيتس: على رأس الكثيرين سأمضي، وبين الكثيرين سأكون. فما هو يا ترى عمل الموت الذي سيتم تنفيذه من خلالي في هذا اليوم؟
تذكر كيف مات الرجال في الماضي، وكيف سيموتون في الأيام القادمة: الفانون ينضجون كعناقيد الذرة ومثلها يولدون من جديد.
كان على نيشيكيتس أن يطوي أمام كوخ إله الموت (ياما) ثلاثة ليالٍ دون طعام.
هتف هاتف: يا إله الموت، عندما يأتي روح النار البرهمي إلى منزلك: قدم إليه قراه ماءً.
أي رجل أحمق ذلك الذي يمنع القرى عن البرهمي! إنه يفقد آمال مستقبله وحسنات ماضيه وثروة حاضره وأبناءه وكل أحبائه.
قال إله الموت: طالما أنك قد جئت إلى منزلي ضيفاً مقدساً ولم تتلق ضيافتك لثلاث ليالٍ؛ فإن لك أن تتمنى علي ثلاث أمنيات.
قال نيشيكيتس: إذاً فليهدأ غضب أبي وليتذكرني وليرحب بي عندما أعود إليه. تلك هي أمنيتي الأولى.
قال إله الموت: فبقوتي سيتذكرك أبوك ويحبك كما كان يفعل دائماً؛ وعندما يراك وقد تحررت من قبضة الموت، فإنه سيقضي ليلته في هناء.
قال نيشيكيتس: ليس في السماء خوف ولا شيخوخة ولا موت، والرجل الصالح يخلد في السماء في حياة لا يعرف فيها جوعاً ولا عطشاً ولا أسفاً.
إن أولئك الذين في السماء مخلدون. وأنت تعلم يا إله الموت أن النار المقدسة هي التي تقود الإنسان إلى السماء. فاشرح لي لأني مؤمن. ولتكن تلك هي أمنيتي الثانية.
قال إله الموت: إنني حقاً أدرك أن النار المقدسة هي التي تقود إلى السماء فاعلم إذاً أن النار وسيلة لبلوغ العالم اللانهائي كما أنها أساس ذلك العالم، أما مستقرها فإنه موضع مقدس في قلب الإنسان.
وقد حدثه إله الموت عن نار الخلق، وبداية الخليقة، كما حدثه عن عدد اللبنات التي يجب أن يبنى بها مذبح النار المقدسة وبأية طريقة يجب رصها. وقد ردد نيشيكيتس الدرس بعد أن وعاه الأمر الذي سر إله الموت فتابع قائلاً:
سأعطيك اليوم أعطية وهي أن نار الأضحيات ستدعى اعتباراً من اليوم باسمك ثم خذ إليك أيضاً هذه السلسة ذات الأشكال المتعددة. تلك هي النار التي تقود إلى السماء وقد اخترتها لتكون الأمنية الثانية. أما الآن يا نيشيكيتس فاختر الأمنية الثالثة.
قال نيشيكيتس: عندما يموت المرء، يبرز هذا الشك: البعض يقول “هو كذا” والبعض يقول «إنه ليس كذلك». فعلّمني الحقيقة.
قال إله الموت: حتى الآلهة كان لها هذا الشك في الأزمنة السحيقة؛ ذلك أن قوانين الحياة والموت غامضة. أطلب أمنية أخرى واعفني من هذه يا نيشيكيتس.
قال نيشيكيتس: لقد كان الشك هذا لدى الآلهة أيضاً، وأنت تقول يا إله الموت: أنه من الصعب فهم الأمر؛ ولكن ليس هنالك معلم أفضل منك ليعلمنيها، وليست هنالك أمنية أعظم من هذه.
قال إله الموت: خذ أحصنة وذهباً وماشية وفيلة؛ تمن أولاداً وأحفاداً يعيشون مئات السنين. امتلك أراضي واسعة الامتداد، وعش ما تشاء من السنين.
أو اختر هدية أخرى تعتقدها مساوية لهذا، وتمتع بها مع الغنى والعمر الطويل. كن حاكماً لهذه الأرض الممتدة. سوف أمنحك كل ما ترغب.
سل ما شئت من الأماني في عالم الفانين، مهما كانت صعبة البلوغ. سوف أعطيك خادمات حسناوات لخدمتك مع عربات وآلات موسيقية. ولكن لا تسلني يا نيشيكيتس عن أسرار الموت.
قال نيشيكيتس: كل هذه اللذات تفنى، هي نهاية كل شيء‍‍‍‍‍‍‍‍‍! إنهن ينهكن قوى الحياة ،إن الحياة قصيرة فاحتفظ بالأ حصنة والرقص والغناء.
المرء لا يمكن إرضاؤه بالثراء. أيمكن أن نهنأ بالثراء وأنت موجود يا إله الموت؟ ألنا أن نعيش وأنت مازلت؟ لا أستطيع أن أسأل أمنية غير ما سألت.
عندما يشعر الفاني هنا على الأرض بخلوده، أيمكنه أن يتمنى حياة طويلة من اللذات، ورغبات جميلة ملهية؟
إذاً فاكشف سر الغيب العظيم. هبني الهدية التي تكشف الغموض. تلك هي الهدية الوحيدة التي يمكن لنيشيكيتس أن يطلبها.

الجزء الثاني:
قال إله الموت: هناك طريقان، طريق الفرح وطريق الشهوة وكلاهما يستهويان الروح. العاقل يسير في درب الفرح بينما يختار الأحمق درب الشهوة. من يتبع الطريق الأول ينتهي إلى الخير؛ ومن يتبع طريق اللذات لا يصل إلى النهاية.

أمام المرء يوجد الطريقان وعندما يحتار فيهما، يختار العاقل طريق السعادة؛ بينما يسلك الأحمق طريق الشهوة.

لقد احترت واخترت يا نيشيكيتس ورفضت الملذات. ولم ترض بالنير الذي تمثله ممتلكات الإنسان الذي ينوء تحت ثقل ممتلكاته ويغرق تحتها.

هناك درب الحكمة وهناك درب الجهل. وهما متباعدان يقودان إلى نهايات مختلفة. وإنك يا نيشيكيتس من أتباع نهج الحكمة فكثير من الملذات لا تغريك.

الراسخون في الجهل يظنون أنفسهم حكماء ومتعلمين، أولئك الحمقى يتخبطون دون هدف كالأعمى الذي يقوده الأعمى.

أولئك الذين لهم عقول الصبية لا تشرق أمام أعينهم الحياة الآخرة وهم لا يهتمون أو انهم مغترون بالثروة. وهم يقولون ما يظنونه كلمة الفصل: “ليس هناك حياة أخرى” وإذ يقولون ذلك فإنهم يرحلون من موت إلى موت.

هناك الكثيرون الذين لم يسمعوا عنه، ومن بين أولئك لا يصل إليه إلا القليل. مبارك ذلك الذي يعلم شيئاً عنه وحكيم هو ذلك الذي يتعلم والرائع هو الذي يتمكن من معرفته عندما يتلقى العلم.

من لم يصل إليه لا يمكن أن يعلم. ولا يتسنى الوصول إليه بإمعان التفكير. والطريق الوحيدة للوصول إليه إنما تكمن في وجود المعلم الذي سبقت له معرفته؛ فهو لا تدركه العقول وهو في الحقيقة أعلى من كل ما يمكن أن يخطر لها.

المعرفة المقدسة لا يمكن الوصول إليها عبر المنطق ولكنها توهب للإنسان من معلم حقيقي. ولأن عزمك ثابت فقد وجدت معلمك وليتني أجد تلميذاً آخر مثلك.

إنني أعلم أن الكنوز تفنى وأنه لا يمكن الوصول إلى الخالد عبر الفاني ولذلك فقد جعلت نيران نيشيكيتس للتضحية، وبإحراق الفاني فيها يتم الوصول إلى الخالد.

لقد بسط أمام عينيك يا نيشيكيتس وعرض عليك تحقيق كل الرغبات وحكم العالم والجزاء الخالد في شاطئ الأمان حيث لا خوف، وعظمة الشهرة والفضاءات التي لا حدود لها. ولكنك بقوتك وحكمتك رفضتها جميعها.

عندما يجعل الحكيم همه الوحيد التفكير في الإله المتعالي على الزمن والذي يسكن في خفاء غموض الأشياء وقلوب البشر عندها فقط يتعالى الحكيم على الشهوة والألم.

وعندما يلقي الإنسان سمعه ويفهم وعندما يجد الجوهر يصل إلى اللب، وهناك يلتقي بمصدر السعادة. إنك يا نيشيكيتس بيت مفتوح للأتمان إلهك.

قال نيشيكيتس: قل لي ماذا ترى وراء الحق والباطل، ووراء ما تم وما لم يتم، ووراء الماضي والمستقبل ؟

قال إله الموت: سأخبرك الكلمة التي تقدسها كتب الفيدا، والتي تعبر عنها كل تضحية بالنفس وكل الدراسات المقدسة والتي تبحث عنها كل حياة مباركة. إن هذه الكلمة هي “أوم”.

إن تلك الكلمة هي البراهمان الأبدي، تلك الكلمة هي النهاية العليا. وعندما تعرف تلك الكلمة المقدسة فإن كل الأشواق تجد مبتغاها.

إن المعنى الأعلى للخلاص هو عون المتعال. وعندما يعرف تلك الكلمة العظيمة يصبح المرء عظيماً في جنة براهمان.

إن أتمان “روح الرؤى” لا يولد ولا يموت. لم يكن قبله شيء، وسيبقى وحده إلى الأبد. الخالد الذي لم يولد، المتعالي على الأزمان الماضية والآتية، والذي لا يموت عندما تموت الأجساد.

إذا ظن القاتل أنه يقتل، وإذا ظن المقتول أنه يموت، فإن كلاهما بعيدان عن الحقيقة. فالخالد في الإنسان: لا يستطيع أن يقتل كما أن الخالد في الإنسان لا يستطيع أن يموت.

إن الأتمان مخفي في قلوب كل الكائنات، هو الروح، وهو النفس؛ وهو أصغر من أصغر الذرات، وأوسع من الفضاء الشاسع. الإنسان الذي يتخلى عن بشريته سيخلف أحزانه وراءه، وسيحوز مجد الأتمان برحمة من الخالق العظيم.

عندما يرتاح، يجوب الآفاق؛ وعندما ينام، يستطيع الذهاب إلى كل مكان. من يعرف مثلي إله الأفراح والأتراح ذاك؟

عندما يدرك الإنسان الروح الخالدة، التي تكمن خفية في المرئي وخالدة في الفاني، عندها فقط يتجاوز الأحزان.

ليس بكثرة العلم يصل الإنسان إلى معرفة الأتمان، ولا بالثقافة ودراسة العلوم المقدسة. إنما يصل إليه من اختارهم هو لأنهم اختاروه. ولا يكشف الأتمان عظمته إلا لهم.

حتى المعرفة العميقة لا توصل إلى الأتمان، ما لم يقم الإنسان بهجر طرق الشر، وما لم تكن هناك سكينة في الحواس، وتركيز للعقل وسلام في القلب.

أين ذلك الذي يعرف حقاً؟ إن قوته الجليلة تغوي الكهنة والمحاربين، بل إن الموت نفسه يقع في الغواية.

الجزء الثالث:

في المكان العالي المقدس من القلب هناك كائنان يرتشفان رحيق الحياة في عالم الحقيقة. أولئك الذين يعرفون البراهمان. وأولئك الذين يحافظون على جذوة النيران المقدسة الخمسة التي تضيء نيران نيشيكيتس الثلاثية. أدعها “النور” و”الظل”.

هلم بنا نشعل نيران نيشيكيتس المقدسة، فهي الجسر الذي نعبر به إلى الشاطئ الآخر حيث لا يوجد خوف، وحيث توجد الروح العليا الخالدة.

إعلم أن الأتمان هو بمثابة مالك العربة؛ وأن الجسد هو العربة نفسها. أما الفكر فاعلم أنه بمثابة قائد العربة، والعقل هو العنان. أما الحواس فهي الأحصنة كما يقال؛ والطريق الذي تسلكه هو ما تتلقاه الحواس.

عندما تتحد الروح بالعقل والحواس يوجد الإنسان ذلك الواحد الذي يعاني الأفراح والأتراح.
إن صاحب العقل المضطرب الذي يسيء فهم الأمور، لا يحسن قيادة مجرى حياته مثله في ذلك مثل الفارس الرديء الذي يقود أحصنة متوحشة.

أما ذو العقل المستقر الذي يحسن فهم الأمور، فهو حاكم حياته، مثله في ذلك مثل الفارس الماهر الذي يقود أحصنة مروضة.

الذي يسيء تقدير الأمور هو شخص لا مبال ولا يتصف بالنقاء، إنه لا يصل أبداً إلى نهاية الرحلة؛ بل إنه يتخبط من موت إلى موت.

أما ذلك الذي يحسن تقدير الأمور فهو شخص متنبه ونقي، وهو يكمل الرحلة إلى حيث اللاعودة إلى العالم الفاني حيث يوجد الموت.

الشخص الذي يقود الفكر عربته، والذي يتنبه ويحكم قبضته على أعنة عقله يصل إلى نهاية رحلته، إلى الروح العليا الخالدة.

تقف الموضوعات خلف الحواس، وخلف الموضوعات يقع العقل، وخلف العقل يقع الفكر الخالص، وخلفه تقع روح الإنسان.

خلف الروح يوجد الكون وخلفه يوجد “بروشا” الروح العليا. ولا شيء خلف بروشا: فهو نهاية الطريق.

إن نور الأتمان، الروح، مستتر في كل الكائنات. وإنما يرى بإلهام ذوي الرؤى، عندما تكون رؤاهم مخلصة وصافية.

يخضع الحكيم الكلام للعقل، والعقل للذات العارفة، والذات العارفة لروح الكون في روح السلام.
استيقظ وقف! وانطلق وجاهد لبلوغ الأسمى، قف في النور! يقول الحكماء: أن الصراط ضيق وصعب لمن يرتاده، ضيق كحد الموسى.

تنزه الأتمان عن كل شكل وصوت، وعن اللمس والذوق والشم تنزه. إنه خالد لا يتغير ليس له أول ولا آخر: ولا تحيط به الأفكار. وعندما يتجلّى في الإنسان إيمانه بالأتمان يتحرر الإنسان من قبضة الموت.

الحكيم الذي يتعلّم ويعلّم قصة نيشيكيتس القديمة هذه والتي مصدرها “ياما” إله الموت، سينال المجد في عالم البراهمان.


المخلص المليء بالإخلاص يقرأ اللغز الأكبر في اجتماعات البراهميين، وفي احتفالات “شادها” التي تقام للمتوفين لإعدادهم للخلود، إنه حقاً يعد للخلود.

اخبار محلية

اخبار دولية

الرياضة

فكر وثقافة

آراء واتجاهات

مقالات

شعر وشعراء

اخبار اقتصادية

وثائقيات

جميع الحقوق محفوظة ©2013